فصل: تفسير الآية رقم (224):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (224):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [224].
{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، العرضة بضم العين، فعلة بمعنى مفعول- كالقبضة والغرفة- وهي اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود على الإناء. فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات- من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد- ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر إرادة البر في يمينه. فقيل لهم: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ}، أي: حاجزاً لما حلفتم عليه. وسمي المحلف عليه يميناً لتلبسه باليمين كحديث: «من حلف على يمين» الآتي ذكره، أي: على شيء مما يحلف عليه. وقوله: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ}، عطف بيان لـ: {أَيْمَانِكُمْ}، أي: للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. أفاده الزمخشري.
وعلى هذا التأويل: الآية: كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف. ورواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني، والله! إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها». وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير».
وفي الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسرين. وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به. وذلك لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له. يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك. وقال الشاعر:
ولا تجعليني عرضةً للوائم

وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثيّر:
قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه ** وإن سبقت منه الألية برّتِ

والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أن من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك. ولا يبقى لليمين في قلبه وقع. فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة. فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين. وأيضاً، كلما كان الإِنْسَان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية. ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجلّ وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. وأما قوله تعالى بعد ذلك: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا}، فهو علة للنهي. أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون براً متقياً، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (225):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [225].
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية- إذا لم تقصدوا هتك حرمته- وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا قصد إليها. كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَان} وهو المعني بقوله عز وجل: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، أي: تعمدته قلوبكم فاجتمع فيه، مع اللفظ، النية. يعني: ربط القلب به لفوات تعظيم أمره، ولهتك حرمته بنقض اليمين المقصودة.
روي عن عائشة أنها قالت: أنزلت هذه الآية في قول الرجل: لا والله، وبلى والله! أخرجه البخاري ومالك وأبو داود، وهذا لفظ البخاري.
وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة والتابعين. ولفظ رواية ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل: لا والله! وبلى والله! فذاك لا كفارة فيه. إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله.
ويروى في تفسير لغو اليمين: هو أن يحلف على الشيء يظنه، ثم يظهر خلافه. ويروى: أن يحلف وهو غضبان: ويروى غير ذلك، كما ساقها ابن كثير، مسندة.
وقد ظهر- للفقير- أن لا تنافي بين هذه الروايات، لأن كل ما لا عقد للقلب معه من الأيمان فهو لغو بأي صورة كانت وحالة وقعت. فكل ما روي في تفسير الآية فهو مما يشمله اللغو. والله أعلم.
والمراد من المؤاخذة: إيجاب الكفارة. كما بين ذلك في آية المائدة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} {وَاللّهُ غَفُورٌ}، يعني: لعباده فيما لغو من أيمانهم فلم يؤاخذهم به: {حَلِيمٌ}، يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة تربصاً بالتوبة. والجملة تذييل للحكمين السابقين. فائدته الامتنان على المؤمنين، وشمول مغفرته وإحسانه لهم.

.تفسير الآيات (226- 227):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [226- 227].
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: {وإنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء، وهو لغة: الامتناع باليمين، وخص في عرف الشرع: بالامتناع باليمين من وطء الزوجة. ولهذا عدى فعله بأداة من تضميناً له معنى، يمتنعون من نسائهم: وهو أحسن من إقامة من مقام على. وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يفيء وأما أن يطلق.
وقد اشتهر عن علي وابن عباس رضي الله عنهم: أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور. وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر. فاحتج على محمدٍ بقول علي كرم الله وجهه، فاحتج عليه محمد بالآية فسكت. وقد اتفق الأئمة على أن المولى إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين، وإنما ترك ذكرها هنا؛ لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز. فعموم وجوب التكفير ثابت على حالف.
قال العلامة صديق خان في تفسيره: اعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي أي: يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة: {فَإِنْ فَاؤوا}، أي: رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أي: لا يؤاخذهم بتلك اليمين، بل يغفر لهم ويرحمهم،: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ}، أي: وقع العزم منهم عليه والقصد له: {فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ}، لذلك منهم: {عَلِيمٌ} به. فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة. فمن حلف أن لا يطأ امرأته- ولم يقيد بمدة، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر- كان علينا إمهاله أربعة أشهر. فإذا مضت فهو بالخيار: إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء. وأما إذا وقّت بدون أربعة أشهر: فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً. فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر. وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة. وكان ممتثلاً لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «من حلف على يمين فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
قال الحرالي: وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر. ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال، كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء. فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه.
قال الإمام ابن كثير: وقد ذكر الفقهاء وغيرهم- في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر- الأثر الذي رواه مالك عن عبد الله بن دينار قال: خرج عُمَر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ** وأرّقني ألا خَليلَ ألاعبُه

فوالله! لولا الله، أني أراقبُه ** لحُرِّك من هذا السرير جوانبُه

فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك. وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول:
تطاول هذا الليل وازورّ جَانِبُه ** وأرّقَني ألا ضجيعَ ألاعبُه

ألاعبه طوراً وطوراً كأنما ** بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبُه

يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه ** لطيف الحشا لا يحتويه أقاربُه

فوالله! لولا الله، لا شيء غيره ** لنُقِّض من هذا السرير جوانبه

ولكنني أخشى رقيباً موكَّلاً ** بأنفاسنا، لا يفتر الدهرّ كاتبُه

مخافة ربي، والحياء يصدّني ** وإكرام بعلي، أن تنال مراكبه

ثم ذكر بقية ذلك- كما تقدم أو نحوه- وقد روي هذا من طرق، وهو من المشهورات.

.تفسير الآية رقم (228):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [228].
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت. وأريد بالمطلقات: المدخول بهن من ذوات الأقراء، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. أما غير المدخولة فلا عدة عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]، وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فهذه الآية من العام المخصوص.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟
قلت: هو خير في معنى الأمر، وأصل الكلام وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله. فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه موجوداً. ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة. كأنما وجدت الرحمة، فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل توكيد. ولو قيل: ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة..
فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل تربص أربعة أشهر، وما معنى ذكر الأنفس؟
قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن. وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
والقرء: من الأضداد. يطلق على الحيض والطهر. نص عليه من أئمة اللغة: أبو عبيدة والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم. والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل، استوفاه الإمام ابن القيم في زاد المعاد فانظره. ولمن نظر إلى موضوعه اللغوي أن يقول: تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض. فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به. والله أعلم {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ}،- أي: المطلقات-: {أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}، من الحيض أو الولد، استعجالاً في العدة أو إبطالاً لحق الزوج في الرجعة: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ}، أي: إن جرين على مقتضى الإيمان به، المخوف من ذاته: {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، المخوف من جزائه. ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة على ذلك. فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق. وهذه الآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه، فأمره عند الله شديد {وَبُعُولَتُهُنَّ}- أي: أزواجهن-: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، أي: يرجعتهن، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها: {فِي ذَلِكَ}، أي: في زمان التربص، وهي أيام الأقراء. أما إذا انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها، ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد. ولا خلاف في ذلك: {إِنْ أَرَادُواْ}، أي: بالرجعة: {إِصْلاَحاً}، لما بينهم وبينهن، وإحساناً إليهن، ولم يريدوا مضارتهن. وإلا فالرجعة محرمة لقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. أي ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. كما ثبت في صحيح مسلم: عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وعن معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». رواه أبو داود وقال: معنى لا تقبح: لا تقل قبحك الله.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» متفق عليه.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»
. متفق عليه.
وعن طَلْق بن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور». رواه الترمذي والنسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح». متفق عليه.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إني لأحبُّ أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
تنبيه:
المعروف: ما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره، مما قبله العقل، ووافق كرم النفس، وأقره الشرع. وقد قال بعض الفقهاء: لا يجب عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ ونحوه، لأن المعقود عليه منفعة البضع، فلا يملك غيرها من منافعها..! ولكن مفاد الآية يرد هذا ويدل على وجوب المعروف من مثلها لمثله، وبه أفتى الإمام ابن تيمية وفاقاً للمالكية. وإليه ذهب أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني، واحتجا بما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت وعلى ما كان خارجاً من البيت من عمل. رواه الجوزجاني من طرق.
واستدل بالآية أيضاً على وجوب إخدامها، إذا كان مثلها لا يخدم نفسها.
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: أي: زيادة في الحق وفضيلة. كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح {وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي: غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه.